قصة موت مدينة

  • 21,فبراير 2018
  • المصدر: صقر الصنيدي
 
طيلة ساعة وخمسين دقيقة لم تتوقف امرأة يغطي الحجاب نصف وجهها عن الدعاء للشعب السوري وان تنتهي الحرب ويعود السلام اليه وحتى تتأكد ان الاسرة التي تجلس بالقرب منها في الباص المتجه من صنعاء نحو عمران تفهمها حاولت تذكر كل الكلمات السورية التي خلفتها المسلسلات الدرامية لتستخدمها في امانيها يا رب ترجعوا ع بلادكم بالسلامة
 
 
لم يدر في خلد تلك المرأة التي غادرت الباص عند مدخل عمران انها ستكون بعد أشهر بحاجة الى من يدعوا لها ان تعود الى بيتها وما زال كما هربت منه اتقاء الحرب التي لم يكن احدا يتوقعها من هؤلاء الذين يمتلئ بهم الباص عائدين من العاصمة بأغراض بسيطة وامال مكرره
أكثر ما جذب تعاطف المرأة مع الاسرة السورية التي تسير عكس اتجاه موطنها
 الطفل المولود منذ اسابيع والذي يتداول حمله الاب والام والجدة قبل ان تطلب هي ان تشاركهم في محاولات ايقاف بكاء الصغير
وقد تمكنت من ذلك ببساطة وهي تستمع الى والدته اثناء شرحها لهول ما اصاب مدينتهم درعا
ولسبب السفر الى عمران ففيها معالج قادر على تهدئه الطفل وجعله ينام طوال الليل كما نصحهم جيرانهم في صنعاء
لم يتمكن هذا المبرر من اقناع جنود النقطة الامنية الذين لمح أحدهم ان هدف الزيارة كسب تعاطف اهل عمران والحصول منهم على ثمن التعاطف مع من شردتهم حرب
سيختبرونها بعد أشهر فقط دون ان يجدوا من يتعاطف معهم
 
 
نصحني أيضا بترك مدينته وعمل ما يقوم به من اراهم في الشارع الذي بداء وكأنه يريد ان يذهب حيث يذهب كل من عليه
 

حين بدأت سرعة الباص تقل كان عدد الركاب في تناقص وفجأة قال السائق هذا اخر مكان أصل اليه وهو يرقب ملامحي بالمرآة الامامية والتي يحتاج الى الامساك بها حتى تؤدي الدور الذي صنعت لأجله
 وبالكاد اقنعتني كلماته باننا في قلب المدينة التى صدمت توقعي
استقبلتني نداءات السائقين وهم يدعونني الى خانات سياراتهم المكشوفة " صنعاء _ صنعاء " وحركة قليل من الناس وهم يغادرون فقد اقتربت الظهيرة موعد ترك عمران بالنسبة لكثيرين يأتون صباحا الى اعمالهم ثم يعودون فرحين بالمغادرة
حين اتصلت بأحد الزملاء من المدينة اعتذر لأنه ايضا في العاصمة
ثم قال لن تحتاجني ستعرف كل الاماكن بنصف ساعة
نصحني أيضا بترك مدينته وعمل ما يقوم به من اراهم في الشارع الذي بداء وكأنه يريد ان يذهب حيث يذهب كل من عليه ثم يعود في الصباح التالي حين يحتاجون اليه اما الان فاستخدامه يقل الى اقصى درجة  
بعد الظهيرة عرفت قيمة نصيحة المغادرة
قلب المدينة متوقف
والبقاء في الفندق أفضل من توقع انجاز المهمة الصحفية التي ذهبت لأجلها
كل من اعثر عليهم يرددون ذات العبارة
عد غدا في الصباح لتجد من تبحث عنه
3.jpg
مدينة النصف يوم
 انها مدينة النصف الاول من كل يوم
في الليل تسمع أحدهم يسحب قدميه على درج الفندق المقام حديثا
 ثم وقوع جسدا مرهق على سرير متعب
يسيرا عليك ان تعرف أنك نزيلا مع عابرين اظلم الليل امامهم فتوقفوا لقضاء جزء منه في مدينة لا يريدون طول البقاء فيها
معظمهم سائقو سيارات شحن كبيرة في طريقهم نحو حرض ومنها الى المملكة العربية السعودية
 
ايقظت اسئلتي المتكررة الشاب ليرفع راسه قليلا ويختار ابسطها للإجابة "عند التاسعة " وبالفعل كانت الكلاب وحدها تتجول بخطوات بطيئة كأن احدا ما يجبرها على السير نحو بقعة لا تحبها
 

 ولا يبزغ الفجر حتى يكونوا جميعا قد تركوا الحساب على الطاولة بالقرب من يدي شاب يتخذ من مرفقيه وسادة للنوم ومن عينه اليسرى رقيبا عليهم اثناء بحثهم عن بطائقهم الشخصية المرصوصة معا
ايقظت اسئلتي المتكررة الشاب ليرفع راسه قليلا ويختار ابسطها للإجابة "عند التاسعة " وبالفعل كانت الكلاب وحدها تتجول بخطوات بطيئة كأن احدا ما يجبرها على السير نحو بقعة لا تحبها
وبين وقت واخر تجتاز الشارع الى الجهة الاخرى لتشارك غيرها الحذر من المركبات المسرعة
 كنت مضطرا لمتابعة مشهد الكلاب لأنني لم اجد ما يتحرك سواها قبل ان يظهر طلاب المدارس متقمصين دور القادم من مكان بعيد
وتدريجيا بدأت المحلات التجارية تفتح ابوابها اما المطعم الذي غامرت بالبقاء عند عتبته فقد تأخر واضطررت للانتظار خارجه ليكمل العاملين فيه التجهيزات ولم يكن امامي غير الصبر حتى تعد وجبة الافطار التى لا يمكن تناولها كاملة ويتم الاكتفاء بما يسد الرمق وهنا ايضا كنت اسمع نصيحة الامس بوضوح اكثر.
فجأة تتكاثر باصات صغيرة ذات ألوان متعددة وتبعث معها الازدحام والاصوات المتداخلة
ينسى سائقوها التنافس بالسرعة ويذهبون الى التنافس بالألوان التي لا تراها فى أي محافظة أخرى
 أصبح الشارع متعدد الالوان الاحمر والاخضر والسماوي والقليل من الابيض
يكفي الوقوف على حافة الشارع لجلب احدى الباصات الملونة
" اطلع " ولا داعي لتحديد الوجهة لأنه لن يترك مكان في المدينة الا وعبر منه مسرعا غير مكترثا من اولئك الذين يصعدون اليه ثم ينزلون مكتفين بتحيته برفع احدى الايدي بدلا من دفع
الحساب
حين حاولت ان اقلدهم لحقتني عبارته "حتى انت " قبل ان اعتذر منه واعرف ان من يرتدون البنطلون موظفين لا يتم التسامح معهم في عدم الدفع
 
 
 
 
 
4.jpg
 
أمنية واحدة
في المركز الصحي بالمحافظة والمحاط بسور يكفي لاحتضان اكبر مستشفى في البلاد انضممت الى قائمة المنتظرين القادمين من خارج مركز المدينة الذين يتشاركون امنية واحدة ، ان لا يكون خط صنعاء عمران قد تعرض للتقطع القبلي وان يأتي الدكتور خالد النهمي لمعالجتهم
حين وصل حاملا حقيبته الثقيلة كما يبدو
 كادت الزغاريد ان تعلو وتدافع المرضى نحو الغرفة التى لاذ اليها سريعا
وبدأ يخرج ادواته وينادي على مساعده لينظم الدخول
" منذ خمس سنوات وانا اقوم بهذه الرحلة يوميا من صنعاء الى عمران "
قال خالد وقد دخل ثلاثة الى جوار مريضهم الذي جلس على كرسي مقابل الطبيب
اخذ يستمع الى احد الواقفين وهو يشرح له حالة من قال انه لا يستطيع وصف حالته جيدا كما يفعل ابنه الوحيد وكان الاب معجبا بما يقوله الابن عن حالته وعن معاناته ولم يفلح الطبيب في اقناع المريض بالرد على اسئلته ليعرف قصته المرضية " الولد يعرف كل شيء " قال خالد ان معظم المرضى القادمين من مناطق بعيدة يتيحون للمرض ان يتطور ولا يقدرون على وصف اعراضه جيدا ويوافقون على كل ما يعتقد الطبيب مما يعقد التشخيص
يرافق النهمي في رحلته الصباحية عدد من الموظفين في مرافق اخرى ويعودون معا ظهرا، جميعهم فشلوا في السكن في المدينة رغم انهم ينتمون الى احدى مديراتها ولكل تجربته في محاولة العيش فيها والخروج بقناعة الابتعاد .
كيف اصبحت مدينة
تحتلق عمران حول مصنع الاسمنت الشهير وتدين له بالانتقال من مديرية الى مدينة
ولولا المصنع لما تغير حالها ووضع عدد من ابنائها الذين التحقوا بالعمل فيه وغامروا بالسكن قريبا منه متشاركين مع القادمين من محافظات اخرى اسهموا في بنائه بعد ان اقامة اليابانيون وغادروا مخلفين الآلات الضخمة وملعب مهجور لكرة اليد وبيوت على طراز مختلف عن كل مباني المدينة واليمن
حتى هذه المنشأة العملاقة التي تنتج مليون طن ونصف من مادة الاسمنت سنويا اصبحت تكافح لتغطية تكاليف الانتاج المرتفعة والانخفاض الكبير بالأسعار ووجود منافسين يعملون بمادة الفحم الاقل تكلفة من المازوت الذي يدير محركات مصنع يتحسر على سنوات مجده الماضية حين كان انتاجه يسارع في نمو مباني المدينة ومدن اخرى
حاليا توقف العمل فيه ولم يعد غير محطة كبيرة للذكريات
أربع ساعات:
انتهى يوم عمران سريعا ولم أكن بدأت العمل على التحقيق الخاص ببيئة المدينة
فكل ما اتيح لي أربع ساعات فقط قبل ان أصبح وحيدا اتأمل الناقلات المكشوفة التي فقدت الوانها وقدرتها على السير لتحتل مساحة واسعة جوار منشأة خدمت فيها عقودا تحمل غبار الزمن وحسراته من اماني لم تحققها لمالكيها
حين تصعد على ظهر أحدها يبدو المنظر كما لو انها في اجتماع عقد في الماضي ولم يطويه الحاضر تكاد تصغي لاحاديثها المتقطعة
العشاق
لم أكن قد انتبهت لأسم الفندق الذي يحتفظ بهويتي الشخصية الوحيدة بعد ان غادره الجميع رفعت راسي قليلا واحببت تأجيل الدخول حتى اعرف اسم الفنادق الاخرى المتراصة في جهتي الشارع كبائعين مبتدئين كانت كل الاسماء تبعث على الضحك " فندق ساحل العشاق – الساحل الذهبي – الشاطئ الذهبي – ساحل ابين ..... "
جميعها اسماء تجعلك تعتقد ان ضفة البحر خلف هذه المباني وعليك ان تعثر على مدخل للوصول الى الساحل ما يزيد من اعتقادك الاسعار المرتفعة للغرف والكلمات التي يرددها موظفو الاستقبال ان اردت مناقشة التكاليف او الخدمات التي يختزلها رسيفر غير مكتمل القنوات وريموت فيه زر للإطفاء وزر للتشغيل وثالث للصوت اما البقية فقد غادرت اماكنها وتحتاج الى ما يعينك على تحسسها في مخابئها.
مؤكدا ان الحرب اقفلت ابواب وارزاق العاملين في تلك الفنادق واجبرت العابرين على اختيار طرق اخرى غير ما اعتادوا
 
الحرب اقفلت ابواب وارزاق العاملين في تلك الفنادق واجبرت العابرين على اختيار طرق اخرى غير ما اعتادوا

وعطلت الرحلة اليومية التي يقوم بها الطبيب خالد وزملائه في مستشفى عمران وان غامر بالوصول اليه فسيكون في انتظاره جمهور مختلف من الجرحى الفاقدين لأجزاء من اجسادهم ولن يجدي نفعا ما يقوم به .
تنبش الحروب اسئلة كثيرة ومخاوف ترى أي مخيم استقرت فيه تلك المرأة التي تحلم بسلام يعود الى سوريا واين موظف الاستقبال الذي لن تكفيه عينه اليسرى لمراقبة القذائف والرصاص وهي تسرق الارواح في غفوة لن يتمكن من ممارستها على طاولته المهجورة
 وتلك الام التي اخذت منها الحرب اسرتها كاملة ولم تترك لها غير ابنها المعاق الذي تحمله كل يوم الى مركز التحدي للعلاج الطبيعي في صنعاء عله يصبح قادرا على ترك كرسيه المتحرك
هل تمنت لو ان جميع صغارها كانوا على كراسي متحركة حتى ينجوا من قذيفة الموت لقد تمنت ذلك لكن من يسمع امانيها غير من نقلوا لها خبر الفاجعة
احتجت وقتا طويلا من البقاء في عمران لمحاولة انجاز مهمتي المتعلقة ببيئتها وحجم التلوث
وستحتاج المدينة الى عمرا اطول لمحاولة نسيان ما حدث ولأعاده الطمأنينة الى اهلها الناجين من الموت
 
6.jpg