عن غربتنا القاسية والآم الفقد

عن غربتنا القاسية والآم الفقد
بقلم 

في عام ٢٠١٥ أتى والدي إلى إسطنبول من أجل زيارتي وأيضا ًبغرض التداوي ، مرة مررنا بجوار مقبرة توب كبا (Topkapı ) ورأيت في عيونه الدهشة بجمال هذة المقبرة- مزينةً بالورود ، مطوقة بالأشجار الجميلة ،والمرصعة بالأحجار المتساوية - خاطبته ممازحاً مالك يا أبي مستغرب؟ رد عليّ: (يابني هولاء عايشين أحياء وأموات).

 رأيتُ في عيونه الحسرةَ على وطن ماضيه حسرةً وألم ،وحاضره لم يكن به إلا استكمالاً لحلقاتِ الوجع الممتدةُ من ماضيه، ومستقبل مجهول.

 

 

بالأمس القريب فقدت والدي رحمة الله عليه ، الآلام والوجع يملأ قلبي ، ثلاث سنوات لم أستطع روئيته ، ثلاث سنوات يعيش الألم بسبب المرض ولم أكن بجواره حتى لحظةِ ... ولم يكن أمامي إلا الدعاء له .

 

تلقيت كل التعازي وأنا لم أرى ضريحه لم أشارك في تشييعه، لم أقبل رأسه، لم أمسك بنعشه، لا أصدق !


الحمدلله ... كنت عندما أشارك في جنازة أحد ما أحاول أن أمسك بها لكي أنال الثواب ، ولكن سامحني ياأبي لم أستطع أن أمسك بنعشك وأنت في الطريق إلى مثواك الأخير ، لم يكن أمامي غير الدعاء لك يا نور حياتي.

 

 

قال لي أبي في احدى المرات " يابني هذا الزمان زمانكم وأنتم الشباب رأس مال الوطن " بعدها أدركتُ أننا نحن الشباب أصبحنا إما منفيون، أو معتقلون، أو شهداء، أو مغتربون يصارعون قسوة الحياة، أو عاجزون عن العيش.

 

 

تضل هناك صورة نمطية مغلوطة بإنَّ من بداخل الوطن هم فقط من يعانون من صعوبة الحياة وويلات الحروب ، وأن من يقيم خارجه هو من يفوز وينجو من من قسوة العيش في وطنٍ يسكنه جياع الساسة، ووحوش التطرف، أو وكلاء الرب ، والحمقى ممن يتبعهم .

 

ولكن ما لا يدركه الجميع أننا نحن المغتربون لسنا في نعيم الجنه بل نقطن الحسرة..
نحن البعيدون عن وطننا وأهلنا نتجرع وحشة غربتنا من أجل قوتِ يومنا ، لا نسكن البيوت الفارهة ولا نركب السيارات الثمينة ، بل نعيش في أطراف المدن التي عادةً ما تكون رخيصة ، ونقضي كثيراً من الأوقات في مواقف الحافلات بانتظار حافلات النقل التي تنقلنا إلى مناطق أشغالنا والتي غالبا ماتكون شاقة مكتظة بالناس .

 

 

نتميز في بلدان الاغتراب عن غيرنا من الذين يقنطون في الوطن بمصباح عادةً ما نحرص على أن نطفئه أكثر من أن يكون مضيء بسبب هاجس فاتورةً قد تقسم الظهرأو قد تحدث خللً في ترتيبات ميزانية الشهر ، نتميز عن إخوتنا في الوطن بشبكة هاتف تغطيته جيدة، ولكن عندما نريد أن نستفيد من هذه الخدمة لكي نعيش لحظات مع الأهل والوطن تظل شبكة الوطن بعيدة المنال.

 

 

نحن المبعدون عن أوطاننا لسنا في الجنة ، بل لانزال نعيش في الوطن نفسه ، نحزنُ ونتحسر على كل مكروه يصيب وطننا الحبيب أو قد يصيب فرداً من أهلنا ، نحن في الخارج نعيش كل تفاصيل وويلات الحرب أكثر من الذين هم في الداخل ، نتجرع الأوجاع ونقطن الحسرة .

 

 

نحن القاطنون خارج بلدنا لا نترك الهواتفَ من بين أيدينا ، نتجول في كل منصات التواصل الإجتماعي المختلفة بحثاً عن خبرٍ، أو حدثٍ مفرحٍ يزرع في قلوبنا الممتلئةُ بالشوق بسمة أو فرح. ولكن لا نلقى غير منشورات افتتاحيتها مصرع، مقتل، استشهاد، وفاة.

 

 

لم نترك الوطن بخيارنا ، ولكنا أجبرنا بعد ان فقدنا طرق العيش ، بحثنا فيه عن مستقبلاً لم نجدة ، فضل الوطن راسخاً في قلوبنا.

اللعنة على الحرب التي منعتنا حتى أن نشاهد أو نشارك في تشييع ثرى أقرب الناس لنا.

 

 

ياأبي شاء الله أن تموت وأنا بعيد عنك ، شاء الله أن يأخذ أمانته .. شاء الله أن أعيش ألم فراقك بعيداً عن وطني وأهلي ... لا اعتراض لحكم الله

إلى جنة الخلد يا أبي

عادل راجح

عادل راجح - ناشط اجتماعي