عن الطابع السياسي للثورات العربية

عن الطابع السياسي  للثورات العربية
بقلم 
لا يزل الحديث عن الطابع السياسي للثورات العربية، وهو ما يتجدد مع اندلاع الموجة الثورية الثانية في كل من الجزائر والسودان.

ولعل هذا ما يؤكد أنها ثورات جذرية. تحركها دوافع سياسية في الظاهر، لكن في الجوهر دوافع اقتصادية واجتماعية عميقة.

طغيان الطابع السياسي له أسبابه، دون أن يخل ذلك بحقيقة أنها ثورات اجتماعية وتحركها الدوافع الاقتصادية. فهي ثورات البرجوازية والطبقات المفقرة في وقت واحد، وهي ثورات حشود بمعنى أنها بلا تنظيم، لكن هذا مؤقت ويرتبط بالظروف التي عاشتها وتعيشها الطبقات الشعبية.

فقد انفجرت هذه الثورات في بيئة غير سياسية، حيث لا ثقافة أو فكر سياسي، لا أحزاب أو حركات ثورية، لا تقاليد أو قاموس كما لا برنامج واضح.

طغيان الطابع السياسي في هذه الثورات ليس ارتجاليا أو عفويا كما قد يعتقد البعض، بل في غاية الذكاء ويكشف مدى حدس الشعوب وفطنتها غير الواعية. فالثورات الاجتماعية الخالصة لا يكفي لكي تندلع أن يكون هناك ظروف وأوضاع اقتصادية مزرية، بل تحتاج إلى تراكم سياسي وثقافي يتخلق عنه وعي طبقي بالمصالح وبالشكل التنظيمي المناسب والقادر على بلورة البديل المناسب. ويكون هناك بنية مؤسسية من الممكن تحويلها لصالح الناس.

أما في مثل هذه البيئات القاحلة التي خلفتها الرأسمالية وبنى التخلف والاستبداد، فإن الطابع السياسي لأي حراك شعبي يصبح مرتكز أساسي ومفتتح التحول.
بتعبير آخر: معول الهدم. بعيدا حتى عن كون الأحزاب السياسية المعارضة كانت قد حصرت نشاطها طوال عقدين حول الديمقراطية وحقوق الإنسان وبعيدا عن المفاهيم التي ظلت المنظمات غير الحكومية تصدرها للناس كواحدة من سياسات المؤسسات المالية الكبرى.
ببساطة لأن الذي وعيته الشعوب خلال الأشهر الأولى من الثورة يتجاوز كل تلك الرطانة التي ظلت تصدرها الأحزاب المعارضة والمنظمات غير الحكومية، على الأقل هذه المرة ثمة مختبر وميدان حقيقي للممارسة.
 
الفقر وغياب العدالة والقهر الاجتماعي من أبرز سمات عصرنا، فالرأسمالية لا تخلف سوى الخراب والمعاناة، لكن مواجهة هذه الظروف تتطلب وعيا وتنظيما وإستراتيجية واضحة، وهذا لن يتحقق دون التوجه المباشر لميدان السياسة واقتحام المجال العام من أوسع أبوابه، كما فعلت وتفعل الشعوب العربية منذ ثمانية أعوام.
وهذا حديث لا ينكر أن الظروف المعيشية التي تمر بها الشعوب العربية كانت هي المحرك الأول لهذه الانتفاضات، بل يؤكده، ولكنه يفسر لماذا الطابع السياسي بالذات هو المتصدر.
 
طغيان الطابع السياسي في هذه الثورات ليس ارتجاليا أو عفويا كما قد يعتقد البعض، بل في غاية الذكاء ويكشف مدى حدس الشعوب وفطنتها غير الواعية. فالثورات الاجتماعية الخالصة لا يكفي لكي تندلع أن يكون هناك ظروف وأوضاع اقتصادية مزرية

الشعوب تعي واقعها، ولم تعد قادرة على احتماله لكنها لا تعرف كيف يمكنها تغييره بصورة جذرية بينما هذه الأنظمة التي هي خليط من اللصوصية والجريمة متسيدة، هي فقط تعرف أنها لا تريد هذه الأنظمة التي أوصلتها إلى حدود اليأس النهائية بالتزامن مع اشهار مزيد من الوقاحة، لهذا كان الشعار التاريخي الذي سيعيد توحيد الشعوب العربية وسيوحدها لعقود قادمة: الشعب يريد إسقاط النظام.

هذا الشعار بما يعنيه من استهداف لمركز الطبقة المسيطرة، هو أيضا يحمل رغبة الفئات المفقرة في دفع الصراع إلى أقصاه، كتعبير عن طبيعة البرنامج الذي تحمله هذه الثورات لكن أيضا لأنها الطريقة الأفضل التي يمكن من خلالها استقطاب الفئات الواسعة.
لهذا ارتباط الحرية بالخبز لم يكن خافيا في الثورات العربية، يكفي أن هذا الزلزال أنفجر عقب تلك الجريمة التي حدثت للشاب التونسي محمد البو عزيزي.
 
 أن يبرز الطابع السياسي على ما عداه، فهذا من صميم عمل المرحلة ومفروض بقوة التاريخ وواقع الحال. الناس تتوحد خلف مصالحها، ويتمخض عن هذا التوحد، في لحظة الانفجار، الشعار المناسب، ومصالح الناس هي في الحصول على تعليم وصحة مجانيين، في الحصول على فرص عمل، في الحصول على رعاية اجتماعية وفرص متساوية لكن مهما تخلق من شعار يعبر عن كل هذه المطالب بشكل مباشر ومهما وجد من تنظيم، فإن السؤال الذي سيكون على الجموع معالجته سيطرح على هذا النحو: هل يمكن لهذه الأنظمة الاستبدادية أن تحقق هذه المطالب؟  

النظام هو ثقافة ومؤسسات وسياسات اقتصادية واجتماعية، والأنظمة العربية جميعها مرتبطة بالرأسمالية والليبرالية الجديدة.
أدرك الحدس الشعبي أن هذا مستحيلا، وإذا كان ثمة فعل فليكن الهدف منه، توسيع حدود المعركة على النحو الذي يسمح بإشراك مختلف الشرائح والطبقات، بل وكل الدول التي تعيش تحت حكم أنظمة استبدادية مهما كان وضع شعوبها اقتصاديا.
 
هي ثورات طويلة المدى إذن، أما الطابع السياسي لهذه الثورات فسيستمر وسيأخذ مداه، إلى أن يتم إسقاط أخر حكومة استبدادية، والذي قد يتزامن مع امتلاك أول برنامج يؤسس لبديل حقيقي يقدم حلولا جذرية لمشاكل الناس التي ترى أن مصالحها لا يمكن أن تتحقق في ظل وجود أنظمة استبدادية حولت السلطة والدولة إلى ملكية خاصة ومقدرات البلدان إلى مشاعا للدول الكبرى والشركات الرأسمالية العابرة للقارات.
وسام محمد

صحفي يمني