"حوذي" في انتظار العزاءات

"حوذي" في انتظار العزاءات
قبل نحو أربعة أشهر مات ابن عمي، وكان ابن عمي هذا أحد أقرب الناس إلي، لقد عشنا معا سنوات طويلة مشتركة.
تأملت هذا الخبر لوقت قصير، ثم أصبحت واجما وبعد ساعات ذهبت إلى العمل، كتبت قبل ذلك على صفحتي في الفيس بوك: إن ابن عمي مات، وفي تعليقات مقتضبة تلقيت العزاء من بعض أصدقائي، لكنّ روحي كانت مظلمة وكئيبة، فهذه التعازي المقتضبة لم تستطع لملمة هذا الشعث والألم الذي عشته في ذلك الوقت.
 
في المساء ذهبت إلى المكتب، كان أصدقائي وزملائي منشغلين بأعمالهم، منكبين على مكاتبهم، لديهم من الأعمال الكثيرة التي تشغلهم عن مواساة رجل فقد قريبا له منذ ساعات، انتظرت طويلا التعازي التي لم تأت، ذهبت إلى مكتب صديقي واصطنعت تنهيدة، رفع رأسه من على شاشة الكمبيوتر وقال لي ماذا بك، قلت له مات ابن عمي اليوم، وأنا حزين جدا، قال لي عظم الله أجرك، وعاد بسرعة للنظر في جهاز الكمبيوتر.. كنت أتجول المكاتب مثل ذلك "الحوذي" الذي ذكره تشيخوف في قصته، كان اسمه "إيونا بوتابوف" وقد مات ابنه الوحيد، ولم يجد أحدا في الدنيا ليحكي له عن ألمه الكبير، كلما ركب معه في العربة أحد قال له: هل تعلم أن ابني مات هذا الأسبوع، لكن الراكب لا يلتفت له، ولمحاولة لفت انتباه الراكب يستأنف "الحوذي" مرة أخرى قائلا: ومن يدري، يبدو أنها الحمى، لقد رقد ثلاثة أيام في المستشفى ثم مات، لا يلتفت له الراكب، بل يقول له: هيا أسرع ليس لدي الوقت الكافي لتجاذب الحديث معك، وعندما يركب معه راكب آخر يستغل أي حديث ليقول له، هل تعلم يا سيدي أن ابني مات هذا الأسبوع، فيقول له: كلنا سنموت، هيا عجل. وكان هذا يتكرر مع كل راكب جديد.
 
نعم أنا ذلك "الحوذي" الذي كتب قصته تشيخوف، وأنا الذي كنت أبحث عمن أحكي له قصة ابن عمي هذا الذي مات في مستشفى وسط صنعاء، وصراعه الطويل مع مرض الكبد، وكيف فتت هذا الكبد رجلا في الرابعة والثلاثين من عمره وأحلاما أكبر من ذلك بكثير
 
وقد كتب تشيخوف تلك القصة قبل قرن ونصف بعنوان "لمن أشكو كآبتي" ولكن تشيخوف ربما لم يكن يعرف أن قصته ستكون هي حياتنا الآن بكامل تفاصيلها ووحشتها دون عزاءات، وأن آلاف الناس يعيشون شعور ذلك "الحوذي"، الذي كان يتجول قبل قرن ونصف في أراضي بطرسبورغ.
 
نعم أنا ذلك "الحوذي" الذي كتب قصته تشيخوف، وأنا الذي كنت أبحث عمن أحكي له قصة ابن عمي هذا الذي مات في مستشفى وسط صنعاء، وصراعه الطويل مع مرض الكبد، وكيف فتت هذا الكبد رجلا في الرابعة والثلاثين من عمره وأحلاما أكبر من ذلك بكثير، وترك طفلة لم يبلغ عمرها عاما ونصف، كان ذلك كلما أردت أن أقوله لأي صديق في تلك الغربة، التي لم أشعر فيها بروح من التضامن، لقد ترك ذلك الشاب الحياة، وسقط كما تسقط مزهرية قديمة أو شيئا من هذا القبيل.
 
لكن لماذا ألوم الآخرين! أنا نفسي لم أعد أرى في الموت إيلاما للآخرين، وأصبحت علاقتي معه أشبه بعلاقة الغريب الذي لا يعرف الغريب، ولا تتعدى كونها علاقة اللا مبالاة، كالتعثر بشيء لا يعنيك أو الحصول على شيء لم تكن تبحث عنه.. لقد أخذتنا هذه الغربة إلى المنحى الروحي الأبعد، حتى أن أربع ساعات ستكفي في السنوات القادمة لنسيان ميت وضع لتوه في قبر كما قال صديقي.
 
أنا لا ألوم الآخرين، أسجل ما أحسُّ به الآن. في الأسبوع الماضي وعندما توفي والد أحد أصدقائنا ذهبنا إليه في المساء، قدمنا واجب العزاء، مضت العشر الدقائق الأولى ونحن واجمون، لكن ما أن انقضت نصف ساعة، حتى كنا نعيش حالة أشبه بالمرح منها إلى حالة عزاء وفراق، ضحكنا وتبادلنا الكثير من الأحاديث، وكان ذلك الحزن الناتج عن الموت آخر ما كان يشغل بالنا.. في الأيام التالية ربما لم يعد بعضنا أو أغلبنا للسؤال عن هذا الصديق، وكيف قضى لياليه التاليات في الغربة وحيدا أو غير وحيد..
محمد العليمي

كاتب يمني