تونس : دقت الثامنة مساء، عودوا إلى منازلكم!

  • 24,يناير 2016

ها نحن ننتظر السيارة الموعودة بالقرب من جادة الحبيب بورقيبة التي خلت تماما إلا من بعض عناصر الشرطة. تطوع صديقنا حمدي لنقلنا بالجملة في سيارته بعدما اختفت عربات الأجرة كليا قبل الثامنة ليلا بقليل.

على عكس عادته، يتقيد حمدي الليلة بالتعليمات كمن يحضر وصفة طبية دقيقة، يضيء إشارات السيارة ويطفئها أوتوماتيكا وهي تقترب من الحاجز، يترك الأضواء داخلها "ساطعة" كما تقول التعليمات، وزيادة على هذا، ها هو الليلة يفاخر باعتدال ضغط قدمه على دواسة الوقود.

السيارات النادرة التي نصادفها تتبع بدقة التعليمات نفسها. انقلاب حال جادة بورقيبة التي كانت منذ لحظات تغص بمرتادي المقاهي وبضجة المارة والسيارات، يترك ثقلا لن يخفف وطأته في إحدى اللحظات إلا خفة مشهدنا على أحد الحواجز القريبة من حي التضامن وقد تكدسنا جميعا وحشرنا حقائب محشوة بالمعدات في سيارة واحدة تئن من زحمتنا، وتقفز إلى العين بذة سائقها القطنية البيضاء وقد طبع عليها بخط كبير جدا كلمة "صحافة".

استنفار أمني

نتقدم وتتشابه واجهات المحلات المقفلة، نصل إلى مدخل حي التضامن، ليست اليافطة ما يعلمنا بذلك، بل مشهد الملالة العسكرية وعربات الأمن وعناصر الحرس الوطني وقد ارتدى بعضهم قناعا أسودا يبرز أعينهم فقط. يتأكد أحدهم من بطاقاتنا ورخصة عملنا ويسمح لنا بالتقدم لمئات الأمتار حيث يطالعنا حاجز ثان. تصل إلينا بقايا رائحة الغاز المسيل للدموع.

يحشو واحد من جنود الحرس بندقيته بِطلق غاز جديد، يشرح بشكل مقتضب "من يرمون الحجارة في داخل [الحي] هم مجرد أطفال، بأية حال، اليوم وأمس الوضع أكثر من هادئ مقارنة مع ما قبلهما". يبقى الهدوء سيد الموقف طوال فترة وجودنا، لكن آثار التكسير على مداخل المحال بالقرب منا تشرح أكثر عن "فوضى" المشهد قبل يومين فقط.

تخرج مجموعة جديدة من الحرس من داخل الحي في استراحة لن تدوم كثيرا، سرعان ما يسري بينهم خبر إصابة أحد أعوان الحرس في قفصة، يسرعون إلى بعض الهواتف المتوافرة لمحاولة التأكد من الخبر. وسط الحشد العسكري يتقدم مهدي الزاوي والي أريانة، هو أتى متفقدا الحي، أسأله عن مشاهداته في الحي "أمس واليوم الأسلوب المتبع هو نفسه، أي ضبط النفس مع المحتجين".

يعلم الزاوي أن المسؤولية الملقاة على كل من يطلع بدور إداري أو سياسي كبيرة، تحديدا في ظل اتهامات الإدارة بتهميش مناطق حينا، والفساد والعجز عن حل المشاكل في معظم الأحيان. بدا واضحا أن الاحتجاجات الأخيرة دفعت الكثيرين إلى العمل على إبقاء الجسور قائمة بين الطبقات المهمشة والإدارات، يشرح الزاوي "أمس خصصناه مثلا للنقاش مع قرية البكري كاملة، نظمنا اجتماعا واستمعنا إلى شكاوى السكان حول الطريق والسكن، وعرضنا المشاريع المبرمجة". خطوات يريد الوالي أن تهدئ الخواطر في وقت ترتبط فيه الحلول الجذرية بقرارات على مستوى الوطني وليس فقط على مستوى هذه المنطقة.

يا فرحة لم تتم!

بأية حال، ليست المشاريع المبرمجة ما أغضبت سلمى قبل ساعات في جادة الحبيب بورقيبة، الأخيرة أنهت دراستها الجامعية ولكنها تعرف عن نفسها بصفتها "سلمى.. العاطلة عن العمل"، ما يستفزها هو كلام السياسيين عن حلول لن تبصر النور برأيها "الفساد مستشر والبيروقرطية الإدارية لا قعر لها".

يشارك حسني هذه المرأة غضبها من واقع الحال، يرفع مفاتيح بيده ويشرح "قطعت طريقا طويلة من سوسة، قريبي الذي لم يزر تونس منذ أربعة عشر عاما يصل في قارب عند الثامنة إلى المرفأ، جئت لأستقبله بعد سنوات الغياب هذه، ولكن علمت أنه لا يمكنني أن أصطحبه مساء بسبب حظر التجول، علي المبيت في فندق وهو عليه أن ينتظر في القارب لغاية الخامسة. تخيلي كل العائلة كانت تنتظره الليلة بعد كل هذه السنوات.. هو يسافر وحده ولكن هناك عائلات في القارب، عندما سألت عن ما سيفعلوه لتأمين حاجاتهم ليلا، لكن لم يعرف أحد أن هناك قاربا سيصل إلى المرفأ أصلا".. يتابع حسني بانفعال "حظر التجول يقتل الحياة.. هذا حل انهزامي في نظري أنا."

لكن هذه ليست وجهة نظر بن يونس وهو مدير مؤسسة تربوية، بالنسبة إليه حظر التجول ضرورة "أصحاب الشهادات العليا يتظاهرون في النهار وعلنا وعلى مرأى من الجميع، لكن تتدخل عناصر أخرى في الليل عندها نوايا أخرى لقلب النظام.. وهذا غير مسموح به".

يغيب الانفعال عن كلام رجل يمر مسرعا من جانبنا، لا ينكر بن يونس أن هناك فوارق في التعاطي مع الأزمة بين بعض أحياء تونس العاصمة وغيرها من الولايات، يعلق ممازحا "كما ترين وجهي منتفخ قليلا وبالتالي لا أستطيع أن أدعي أني أعاني من الجوع، لكن لدي جوع من نوع آخر: جوع للديمقراطية الحقيقية وحرية تعبر الطبقات الفقيرة والغنية"..

بالنسبة إلى هذا الرجل فإن التوتر مؤقت، السلطات تتحرك ولا داعي للقلق "ربما زوجتي هي أسعد شخص بحظر التجول، بت أعود إلى البيت كل ليلة قبل الثامنة!"، يقولها مع ضحكة عريضة تسبق خطواته السريعة في قلب العاصمة.